محاضرات ودروس إسلامية

مفهوم الشهادة التي قدمها القرآن الكريم

عندما نتحدث عن الذكرى السنوية للشهيد، نتحدث- كما قلنا- عن مفهوم الشهادة (الشهادة في سبيل الله “سبحانه وتعالى”)، والقرآن قدَّم الشهادة في سبيل الله باعتبارها منزلةً رفيعةً، ومقاماً عظيماً، وشأناً كبيراً، وفوزاً عظيماً،

 وهذا أول ما يجب أن نلتفت إليه حين نتحدث عن الشهادة، بعد أن يكون لدينا فهم صحيح عن الشهادة في سبيل الله،
الشهادة في سبيل الله: هي التضحية بالحياة في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ومعنى ذلك: من أجله، وفق التوجيهات التي رسمها، وفي الموقف الحق، وفي إطار القضية العادلة، إذا اكتملت هذه الأركان، فضحى الإنسان من أجل الله “سبحانه وتعالى”، استجابةً له، هدفه وغايته رضا الله “سبحانه وتعالى”، ووفق توجيهات الله وتعليماته، لم ينحرف عنها في إطار موقفه وفي إطار تضحيته، وكذلك كان في الموقف الحق الذي تحرك فيه، وانطلق على أساسه، وفي إطار القضية العادلة، وليس ظالماً، ولا باغياً، ولا مجرماً، ولا خائناً، ولا عميلاً لأعداء الإسلام، فالإنسان إذا اتجه على هذا الأساس الصحيح، واجتمعت هذه الأركان؛ يعتبر شهيداً في سبيل الله، وقُتِل في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وهذا يعتبر فوزاً عظيماً؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” منح الشهداء في سبيله امتيازاً عظيماً، بحيث تكون شهادتهم عبارةً عن انتقالٍ من هذه الحياة، إلى حياةٍ يعيشون فيها حياةً حقيقيةً بكل مشاعرهم، ويعيشون فيها في ضيافة الله “سبحانه وتعالى”، وبتكريمٍ كبيرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، كما قال “جلَّ شأنه” في القرآن الكريم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169-171]، ففي هذه الآيات المباركة يبين الله “سبحانه وتعالى” بكلماته التي هي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي الصدق، ليس فيها ولا نسبة ضئيلة غائبة عن الحقيقة، أو ناقصة عن الحقيقة، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام: الآية115]، يبين الله “سبحانه وتعالى” هذه الدرجة العالية، هذه المرتبة العظيمة، هذا الشأن الكبير، هذه الكرامة العظيمة جداً التي يمنحها للشهداء، فهم عندما ضحوا بحياتهم في سبيل الله “سبحانه وتعالى” لم يخسروا، ولم يتجهوا في عداد الأموات، فيبقون في حالة موتٍ إلى يوم القيامة؛ إنما أكرمهم الله “سبحانه وتعالى” بأن نقلهم إلى حياةٍ هي أفضل من هذه الحياة في هذه الدنيا، أسعد من هذه الحياة، أهنأ من هذه الحياة، حياة في كرامة وفي رعاية إلهية خاصة، وفي ضيافة الله “سبحانه وتعالى”، وحياة خلصت من كل كدر، من كل الشوائب، من كل الأحزان، من كل الهموم، من كل المعاناة، حياة سعيدة على أرقى مستوى، فهم كما قال عنهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ}، ومعنى هذا: أنها حياة حقيقية بكامل مشاعرهم ووعيهم، وفي هذه الحياة، قال: {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، في كل ما تفيده هذه العبارة من الخير العظيم، والمرتبة الكبيرة: أنهم في ضيافة الله “سبحانه وتعالى”، وأن لهم منزلةً رفيعةً عند الله، ودرجةً عاليةً عند الله “سبحانه وتعالى”، ويحظون بتكريمٍ خاص، وبرعايةٍ خاصة، وبضيافةٍ كريمة عند الله “سبحانه وتعالى”، {عِنْدَ رَبِّهِمْ} تفوق كل مستوى من الخيال يمكن أن نتخيله عن مستوى التكريم، والرعاية، والرحمة، والفضل، وعلو الدرجات، والمرتبة الرفيعة، والرعاية العجيبة، تفوق كل مستوى يمكن أن نتخيله. {يُرْزَقُونَ}، وهذا يعني: أنهم يعيشون حياة لهم فيها رزق، ورزق مستمر من الله “سبحانه وتعالى”، ورزق كريم يلائم طبيعة تلك الحياة التي لا نعرف التفاصيل الدقيقة جداً عنها، ولكنها مؤكَّدة.

ثم يقول: {فَرِحِينَ}، هم في حالة حياة طيبة، ورزق مستمر، لن يكون عندهم أي أزمة اقتصادية، ولا ظروف صعبة، ولا معاناة بشكلها المادي والمعيشي، كل هذا انتهى، وليس عندهم أي همّ تجاه الرزق والحياة المعيشية التي هم فيها بطبيعة وظروف تلك الحياة التي قد تختلف عن طبيعة وظروف هذه الحياة الدنيا هنا على الأرض.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، ومعنى ذلك: أنَّ عطاء الله المتجدد والمستمر والكريم والعجيب يُفرِحُهم بشكلٍ مستمر، فأفراحهم أفراحٌ مستمرة، ليست حالات نادرة.
في هذه الدنيا قد يأتيك ما يفرحك في بعض الأحيان، ولكن قد يعقبه ما يحزنك، وقد تكون الأفراح في واقع هذه الحياة حالات محددة، حالات معينة، حالات موسمية، حالات وقتية، ثم تنتهي ويأتي بعدها الكثير والكثير من الأحزان والهموم والمشاكل في هذه الدنيا، قد نضحك، ولكننا أيضاً قد نبكي، قد نفرح، ولكننا أيضاً قد نحزن في كثيرٍ من الأوقات، قد نتألم في كثيرٍ من الأوقات، قد تشغلنا الهموم والغم في كثيرٍ من الأحيان، في كثيرٍ من الظروف، في كثيرٍ من الأوقات تجاه كثيرٍ من الأمور. أما هناك فلم يعد هناك أي كدر، ولا أي منغصات؛ فلذلك فرحهم هو حالة مستمرة ومتجددة، هم في حالة فرح وارتياح مستمر، راحة دائمة، راحة دائمة.

ثم أيضاً يأتي ما يفرحهم أكثر، ويأتي ما يفرحهم أكثر، ويأتي بين الفينة والأخرى بحسب التدبير الإلهي الكريم الذي فيه تجليات لكرم الله الواسع جداً، يستطيع أن يقدم للإنسان أشياء كثيرة جداً، ومتنوعة جداً، وواسعة جداً، كلٌّ منها يفرحه، يرتاح به، يسعد به، يهنأ به، فهم هناك عند الله “سبحانه وتعالى” حيث لا ينبغي أن نقلق عليهم، ولا أن تقلق عليهم أسرهم، بل هم حيث ينبغي أن نطمئن كامل الاطمئنان عليهم، وعلى مصيرهم، وعلى ما هم فيه من النعيم العظيم، {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

ومع ذلك هم أيضاً فيما هم فيه من النعيم، والراحة الدائمة، والسلامة من كل المنغصات، ومن كل كدر، ومن كل همّ، ومن كل غم، هم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من رفاق دربهم الذين هم معهم في نفس الموقف، في إطار القضية نفسها، في التوجه الإيماني نفسه، {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، هم يستبشرون للآخرين، ويستبشرون لهم بهذا: أنهم يتجهون إلى مستقبلٍ مضمون، مستقبلٍ آمن، ليس فيه ما يمكن أن تَخَاف على من يذهبوا إليه بأنه سيندم، أو سيتحسر على ما فاته وعلى ما فارقه، فهم يستبشرون للآخرين، للذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، يستبشرون لهم: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ويستبشرون بهم؛ لأنهم سينتقلون إلى ذلك النعيم العظيم، والكرامة العظيمة، وحيث الإنسان لا خوف عليه بأنه خسر، أو بأنه ضاع، أو بأنه هلك، أو بأنه فات عليه ما لا يصل في مقابله إلى ما هو أفضل. لا، لا خوفٌ عليهم من خطر، لا خوفٌ عليهم من عذاب، لا خوفٌ عليهم من هلاك، لا خوفٌ عليهم من ضياع، اتجهوا إلى مستقبلٍ سعيدٍ ومضمونٍ وآمن، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}؛ لأن الإنسان لن يندم لأنه انتقل إلى هناك، بل سيفرح ويستبشر ويسعد، ويرى أنَّ تلك الحياة هي الحياة الطيبة التي يتمنى معها كما تمنى المؤمن من أصحاب أهل القرية: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس: 26-27].

هكذا نجد أنَّ الشهادة في سبيل الله مرتبة عالية، وأنها بكل ما تعنيه الكلمة فوزٌ عظيم، فوزٌ عظيم، فهنيئاً لمن فازروا بالشهادة في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، هنيئاً لهم.


كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة الذكري السنوية للشهيد 1442هـ – 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى