مقالات وبحوث

اضمحلال الفكر القومي وبزوغ الفكر الإسلامي – إيران نموذجاً

جعفر الزنكي البصرة الفيحاء

شهد العالم الإسلامي خلال القرن العشرين تحولات فكرية وسياسية عميقة، كان من أبرزها الصراع بين التيارات القومية والتيارات الإسلامية. وقد مثّل الفكر القومي، بشقيه العربي والفارسي والتركي، ردّ فعل مباشر على الاستعمار الغربي، فدعا إلى الانبعاث الوطني والاستقلال والتحرر، لكنه لم ينجح في بناء مشروع نهضوي شامل يلبّي تطلعات الشعوب الإسلامية. ومع نهاية القرن العشرين، بدأ هذا الفكر في التراجع والاضمحلال، مفسحًا المجال لصعود الفكر الإسلامي كمحرّك سياسي واجتماعي وثقافي، وقد كانت الجمهورية الإسلامية في إيران أوضح وأقوى نموذج لهذا التحول.

أولاً: القومية… حدود المشروع وفشل الرؤية

ظهر الفكر القومي في الشرق الإسلامي مستلهماً التجربة الغربية في بناء الدول القومية. وقد مثّلت التيارات القومية وعوداً كبرى بالتحرر والوحدة والنهضة، خاصة في المشرق العربي بعد انهيار الدولة العثمانية. لكن هذا الفكر ما لبث أن تعثّر أمام الواقع:
• فشل مشروع الوحدة القومية: فشلت محاولات الوحدة العربية، سواء في عهد عبد الناصر أو بعدها، لأسباب تتعلق بالتنافس السلطوي، وضيق الأفق الفكري، وغياب المرجعية الروحية الجامعة.
• التحالف مع الاستعمار الجديد: في كثير من الأحيان، ارتبطت النخب القومية بالمصالح الغربية، فتحولت إلى أدوات بيد القوى الكبرى بدل أن تكون صوتًا لاستقلال الأمة.
• القطيعة مع الدين: سعت الحركات القومية إلى تحييد الدين أو تهميشه، ففقدت جزءاً كبيراً من عمقها الشعبي والأخلاقي، وخلقت صراعاً داخلياً بين الهوية الثقافية والدينية.

ثانياً: الفكر الإسلامي وصعود النموذج الإيراني

في مقابل هذا الفشل، بزغ الفكر الإسلامي كمشروع بديل، يجمع بين الأصالة والحداثة، بين الإيمان والعمل السياسي، وبين التحرر الوطني والتكامل الحضاري. وكانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تتويجًا لهذا التحول.
• الثورة الإسلامية نموذجًا ملهِمًا: أسقطت الثورة نظام الشاه الذي كان واجهة للهيمنة الأمريكية، وأقامت نظامًا سياسيًا يعبّر عن هوية الشعب الدينية والاستقلالية. كان شعارها: “لا شرقية ولا غربية، بل جمهورية إسلامية”.
• ولاية الفقيه كفلسفة سياسية بديلة: قدّمت إيران نموذجًا حديثًا للحكم الإسلامي يقوم على فقه سياسي متجدد يربط بين الشرعية الإلهية والمشروعية الشعبية.
• الدور الإقليمي والعالمي: لم تنغلق إيران على نفسها بعد الثورة، بل تبنّت قضية فلسطين، ودعمت حركات المقاومة، وواجهت مشروع الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، حتى أصبحت قبلة للمستضعفين.

ثالثاً: من القومية العِرقية إلى الأمة الرسالية

الفكر الإسلامي كما يتجلى في النموذج الإيراني لا يلغي الخصوصيات القومية، لكنه يسمو بها إلى إطار أوسع: الأمة الواحدة. لا مكان في هذا التصور للتمييز العرقي أو القومي الضيق، بل يكون معيار الانتماء هو الالتزام بقيم العدل والتوحيد والاستقلال.
• إيران تدعم العرب لا لأنها فارسية، بل لأنها إسلامية.
• وتناصر القضية الفلسطينية لا لأنها مجاورة، بل لأنها قضية الأمة.
• وتدافع عن المظلومين من البحرين إلى اليمن، لا لأنها طامعة، بل لأنها تعتبر أن نصرة المستضعفين جزء من هويتها الإسلامية.

خاتمة: فجر الأمة بدأ من طهران

إن أفول الفكر القومي وصعود الفكر الإسلامي لا يعني مجرّد تغير في الشعارات، بل هو تحوّل عميق في وعي الأمة. لقد ثبت أن القومية وحدها عاجزة عن بناء الحضارة أو دحر الاستعمار، وأن الإسلام حين يُفهم كرسالة شاملة لا كطقوس فردية، يصبح أعظم قوة تحررية في العصر الحديث.

وها هو النموذج الإيراني، رغم الحصار والتآمر والحروب الناعمة والخشنة، يصمد ويكبر ويؤثّر، معلنًا أن فجر الأمة بدأ من طهران، وأن طريق النصر يمرّ من بوابة الإسلام الأصيل.

جعفر الزنكي البصرة الفيحاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى